هل لديك أب مسن؟ لديك نعمة عظيمة، ربما تسأل كيف يمكنك الاهتمام به، و ما الذي يحتاجه الآباء كبار السن، و ماهي الأخطاء التي قد نرتكبها في حق الأب؟ سوف أطلعك على موقف من تجربة شخصية مع أبي، كما أدعوك لتكتشف أفضل 15 نصيحة ل حياة أفضل مع الأب.
إزرع ضوء في حياتك مع الأب
عادة ما يهتم الناس بالأم، و هذا شئ ضروري. لكنهم غالبا ما ينسون أهمية الأب، و أنه تماما مثل الأم ينتظر منك الحب و العناية و الرحمة. سوف أحدثك عن الأب لأن هذه الشخصية تكون منسية عادة، بسبب اعتبارات كثيرة مرتبطة غالبا بصورة الأب في خيالنا. إنه ذاك الرجل القوي و الصارم، لا نجرؤ أن ننتقده أو نرد عليه كلاما، حتى إن أردنا سؤاله شيئا نرسل السؤال عبر الأم. لهذا في وجدان معظم الأبناء تظل الأم الأقرب إليهم، و هذا لا يعني أن الأب كان بعيدا بالضرورة. الحقيقة أن الأب ذاك الإنساني الصموت، قلب كبير و عليك فهمه.
سواء كانت علاقتك بوالدك علاقة دافئة، أو لسبب ما كان هناك جفاء بينكما، فأنا هنا أكتب لأشجعك على أن تكون قطعة النور في حياة أبيك، سوف تتذكر نورك برضى و سوف يشع عليك أنت أولا، أما أباك فسيصل ضوءك المزروع إلى قلبه و سيكون مسرورا.
الرحمة قبل كل شئ
ذات يوم نصحتني طبيبة الترويض قائلة: ” قد يطالبك والدك بأن تلبسيه قميصا، قفازا أو حذاء. عادة ما يفعل كبار السن ذلك حتى يعتمدوا أكثر على الآخرين. اتركي الأب يلبس لباسه بنفسه، جواربه و حذاءه، لا ترضخي لمثل هذه المطالب فذلك يساعد المسنين على الاتكالية”.
طبقت نصيحة الطبيبة بحذافيرها و يا ليتني لم أفعل! و سأقول لك السبب. هناك شئ مختلف بيني و الطبيبة. شئ لم أكن واعية به تلك الفترة. المنطلق الذي ننطلق به مختلف. الطبيبة همهما الوحيد فيزيائي محض. فهي تهتم بعضلات الجسم و الحركة الفيزيولوجية و هذا جيد! لكنها لم تفكر في مسألة خاصة جدا مرتبطة بكينونة الأب الإنسانية. من المفروض أن أفكر أنا الإبنة بهذه الكينونة، بهذه العلاقة الفريدة بيني و الأب، لكنها فكرة غابت عني. بالنسبة لأب مسن، لم تكن استعادة القدرة الكاملة على الحركة الرشيقة هاجسا أو مطلبا مثاليا. لقد تحرك في حياته ما لم تتحركه الطبيبة الفيزيائية. لقد كان أبي طوال حياته قويا جسمانيا و كانت هوايته الصيد في الجبال. كل ما يكفي من الحركة قد تحركها أبي في حياته بشكل لا يوصف ولا يعرفه سوى المغامرون، و كان يحتاج لإعادة تأهيل بسيط بدافع السن المتقدم. لكني حلمت بأن أرى أبي بنفس القوة الحركية التي رأيتها في صغري، و كان هذا حلما خاطئا. الأب شاب في قلبه و ليس في جسمه. و لأنه كان حلما خاطئا فكان سلوكي خاطئا، و سأعطيك مثالا :
أحيانا يناديني أبي لأساعده في لبس قميص، فأذكره بقول الطبيبة و أصر على تطبيق نصيحتها ظنا مني أني أفعل الأفضل لأبي!. كنت أعتبر أن مطلبه هو دليل الاتكالية كما تظن الطبيبة بينما أبي لم يكن فعلا يستطيع لبس القميص لوحده. و نسيت تماما حقيقة أن أبي لم يكن اتكاليا أبدا في حياته، و أن العمر و ضعف القدرة الحركية جاءت نتيجة السن. لابد من تصحيح الحلم، فهمت أن أبي لن يعود أبدا قادرا جسديا كما كان في شبابه. من المهم جدا أن تفصل بين تصور الطبيب الفيزيائي وبين رغبة الأب بأن يرى يدك في يده، تمسكه و تساعده في المشي. إن هذه الإنسانية هي ما يتمناها الأب. هذا التعبير الرحيم هو ما يحتاجه والدك، أن يشعر بملمس يدك على يده، أن يشعر بالمعاملة الرحيمة المفعمة بالحب و الإحساس من أبنائه. مهم أن تستمع لرغبة والدك الصامتة بأن تساعده في لبس قميصه، جوربه أو قفازه. مهم أن تلتقط نداء الحب من تعابير أبيك، من نظراته ومن سكوته. كل ما يريده والدك منك أن تكون رحيما بضعفه.
هل أنت بعيد عن الأب و مشغول؟
غالبا ما تأخذنا الحياة بعيدا عن بيوتنا، عن مدينتنا أو عن بلدنا. و بالتأكيد هي تأخذنا بعيدا عن أهلنا و أحبائنا. أكثر من يشعر بهذه المسافة البعيدة الآباء و الأمهات، تمر عليهم أيام غيابك كسنوات، ربما لا يخبرونك بذلك، لأن قلبهم أكبر من أن يزعجوك بمشاعرهم الخاصة. لكن مسافة غيابك تتضاعف إن كان الأب قريبا منك و لا تراه، ربما في جهة من نفس المدينة التي تسكنها، ربما في نفس البيت، و مع ذلك تدخل و تخرج دون أن تلقي عليه نظرة. سواء كنت تزور والدك باستمرار، أو من حين لآخر، أو ربما ابتعدت كثيرا عنه و تسوف قائلا “غذا سأزوره”، ثم يمضي الغذ غارقا في انشغالاتك، ثم تتأسف و تقول مرة أخرى “في نهاية الأسبوع سأزوره”، ثم ينتهي الأسبوع و قد رأيت الكثير و زرت أماكن و عشت لحظات مع الجميع، أصدقاء، زملاء العمل، أبناءك و رفاق النادي، إلا أباك، لم تره، لم تزره و لم تعش معه. و مع ذلك فأنت قريب، في نفس المدينة أو في نفس البيت، أباك وحيد في غرفته، أو في طابق علوي، و هو ينتظرك كل لحظة حتى و إن لم يقل لك كم ينتظرك.
أكثر الكلمات التي يرددها الأبناء الذين فقدوا آباءهم هي ” لم أجلس معه…لم أتكلم معه منذ وقت طويل…لم أزره…لم أُقبله…لم و لم …”. إن فكرت في أبيك طبق الفكرة و لا تسوف أبدا! قد تكون في بلاد بعيدة و لسبب حقيقي يتعذر عليك فعلا التنقل فلابأس! لديك واتساب ليسمعك أباك و تراه و يراك. إن كنت في نفس البلد مع والدك و شعرت بخاطرة تدفعك لزيارة أو اتصال بالأب إفعلها دون تأخير، فذلك يعني أن والدك يفكر فيك و ينتظرك. لا تسوف أبدا!
الأب باب في الجنة
في المجتمعات المسلمة تلقينا الكثير من التعاليم المرتبطة باحترام و تقدير الوالدين. آيات من القرآن الكريم و أحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم تؤكد على قيمة الوالدين و قدرهما عند الله جل وعلا. و إن كان القرآن قد خص كلاهما يعني الأم و الأب بهذا التقدير ولم يفاضل بينهما فإن المشتهر بين الناس هو تقدير الأم بدرجة أكبر من الأب. إن تأكيد الحديث النبوي على قيمة الأم هو بنفس درجة تأكيده على قيمة الأب. ففي حديث نبوي رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ( الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه).
القرآن وضعهما في نفس المنزلة، لهذا من الناحية الدينية فلا تفاضل بينهما. لهذا عليك عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، المبادرة إلى التعبير عن شعورك لوالديك معا، و قد تتفق معي أن الأب فعلا منسي في مبادراتنا هذه، أو على الأقل، مقصرين غالبا في حقه. إن كان والدك على قيد الحياة فسارع و لا تتقاعس. سوف أشاركك أفضل النصائح لتكون أكثر برا بهما، و كذلك أكثر الأخطاء تجاه الأب. إن كنت تقوم بهذه النصائح واقعيا فهذا المقال يشجعك أكثر و يتضامن معك أكثر، و إن كنت مقصرا أو غافلا تماما فسيكون هذا المقال خير مذكر لك و كلمة طيبة تبعث الخير الساكن في قلبك.
أخطاء في حق الأب و أفضل النصائح
هناك أخطاء نقوم بها بلا شعور منا و هي تجرح الأب و تكسر قلبه فكن واعيا بها حتى تتفاداها. أغلب هذه الأخطاء تكون نتيجة الإنفعالات المختلفة. حين يكبر الأب و يصبح مسنا، هذا يعني أنك أنت أيها الإبن/ الإبنة في أوج شبابك. أنت تسعى لتحقيق أحلامك، ربما لديك أسرتك الصغيرة و أنت مشغول جدا في عملك، سفرياتك، مسؤولياتك و مشاغل أبنائك. و لقد نسيت أن ذاك المسن الوحيد في الغرفة هو ذاك الأب الشاب قبل سنوات، كافح يوميا بقدر وعيه و بقدر استطاعته لتكون أنت هذا الرجل اليوم. فأنت في الحقيقة عمل أبيك، إنجازه و ثمرة كفاحه منذ كنت كائنا صغيرا لا يدري شيئا عن هذا العالم.
- تأكد أن فرحة أبيك غامرة حين سمعك تتلعثم بأول كلمة في حياتك، و تمشي متعثرا في أول خطوة في حياتك، و اليوم، كيف تتعامل مع والدك و هو يتلعثم في كلامه و يمشي بثقل مستندا على عكاز و مستعينا بيده على حائط! لقد بلغ الكبر بأبيك مثلما بلغ الضعف بصغرك. و قبل أن تعاتبه…”ماذا تريد أن تقول يا أبي…تكلم بسرعة يا أبي…أو أسرع يا أبي…لماذا مشيتك ثقيلة!!”…قبل أن تقول ذلك تذكر و استرجع ضعفك القديم (و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
- إن كان والدك مسنا مريضا، من واجبك الإنساني كإبن/ ابنة، أن تعالجه و تقدم له الرعاية بنفسك. فقط إن لم تساعدك الظروف اختر من يقدم هذه الرعاية من إخوتك، أقارب، أو موظف خاص بالرعاية، و ليكن المكان البيت المألوف لوالدك. لا تترك أباك أبدا في دار المسنين و أنت قادر على العناية به. أنت لا تدري الجرح العظيم الذي يحدث في نفسه.
- أحيانا الأب المسن ينعزل عن باقي الأسرة، تحر الأمر فقد يكون ذلك بسبب مشاكل السمع. تذكر أن الأب لا يتحدث غالبا عن مشاكله و لا يفصح عن مشاعره كلها، لهذا كن رحيما و انتبه لهذه المسألة. سماعة الأذن قد تحل المشكلة و ستتفاجأ أن والدك المسن يتشارك الحديث معكم و يستأنس بكم.
- إن كانت لدى الأب مشكلة في الحركة، خصص حصة ترويض سواء في مركز ترويض أو في البيت، يقوم بها متخصص في الترويض أو أحد أفراد الأسرة قد تساعد والدك في التحسين من قدراته الحركية. تساعد الأب كثيرا إن سهلت عليه التنقل داخل البيت مثلا، إقامة درابزين أو قوائم يتمسك بها ليمشي بين غرفته و الحمام، و على جانبي الدرج.
- الأب المسن لا يحتاج إلى حضورك المادي و بعدك الحسي. الآباء يشتاقون إلى أبنائهم، و يعشقون أحفادهم، رجاء أن تكون حاضرا بقدر استطاعتك، و أن تأخذ أبناءك أسبوعيا لزيارة الجد الذي ينتظر هذه الزيارة من قلبه.
- إن كنت مع الأب في البيت، فلا تتركه معظم الوقت وحيدا. هل تعلم أن كبار السن يخافون من الوحدة و الصمت. كلما كبر الأب كلما ازدادت مخاوفه تجاه الغد. إنه يفكر في مصيره حتى وهو صامت لا يقول شيئا، لكنه يفكر. لقد أخبرني والدي أنه يفكر في اليوم الآخر. لقد أجبته أن ذاك العالم سيكون أفضل! و مع ذلك لازلت أتساءل كيف لم أتكلم عن الموضوع مع أبي بشكل أوسع.
- يحتفظ الأب بأفكاره الخاصة، اجذبه برفق إلى الحديث حول ما يفكر فيه، ما يشغل ذهنه، أو تذكر ذكريات جميلة أو أي موضوع يجد فيه الأب رغبة في الكلام.
- كبار السن يميلون في أحيان عديدة إلى العزلة و قد تظهر ملامح الكآبة في وجوههم، اقترب من والدك بلطف، أشركه في عمل بسيط أو هواية يحبها، لا تنتظر استجابة سريعة، ستحتاج إلى صبر مستمر في هذه المرحلة.
- من حقك أن تقضي لحظات مع أسرتك الصغيرة، أن تخرج في نزهة مع أبنائك، أن تسافر لقضاء عطلة برفقتهم. لكن صدقني أن تأخذ معك أباك و لو من فترة لأخرى فله مفعول السعادة لك و السرور في قلب والدك.
- يحب الأب أن يشعر بلحظة اجتماعية معك أو مع صديق له، من المهم أخذه لزيارة أصدقائه أو قريب له محبوب.
- لا يتكلم الأب عادة عن حبه لأبنائه لكنه يعبر عن ذلك بطريقة عملية. بالنسبة له كفاحه و سهره على حسن تربيتك ورعايتك و الاهتمام بحاجاتك هو أسلوبه للتعبير عن حبه لك، فلا تقارن بين أسلوبه و أسلوبك كأن تقول لم يقبلني أبدا أو لم يعانقني. تعامل مع الأب بما أنت تشعر به من حب و تعاطف، ذلك يصل إلى روحه و يسعده كثيرا.
- قد تقضي يوما متعبا في العمل، تدخل البيت متأخرا وتتجه مباشرة إلى غرفتك. هل قمت بإطلالة على أبيك؟ قد تظن أنه نائم، و غالبا لا يكون نائما، الأب ينتظر منك تحية، و قبلة على يده أو على جبينه. الأب حساس من ناحية التحية. قد يظن أنه ثقيل عليك! هكذا سيفكر.
- قد يتهاون الأب في تناول أدويته و بعض الآباء يهملون نظافتهم، أنت رغم أنك ترعاه و تهتم به قد يحصل أن تنفعل. قد تصرخ في وجه أبيك، قد تنهره و توبخه، وقد يواجهك والدك بالصمت. بالنسبة لك أنت تعبر عن انفعال لحظي بسبب أنك تريد الأفضل لأبيك، بالنسبة لوالدك أنت تصرخ في وجهه لأنك متعب منه، هكذا يفكر الأب المسن، إنه يميل إلى لوم نفسه في صمت. اعتذر بصدق!
- عند أدنى مساعدة منك حتى ولو كانت بسيطة قد تسمع الأب يعتذر قائلا: سامحني!. أنت تقول في نفسك أن الأب طيب، إنه فعلا طيب. لكن طلب السماح في العمق هو إحساس الأب بأنه يزعجك بحالته التي ترعاها، و أنه يثقل كاهلك فيعتذر منك. انتبه إن رأيت الأب المسن يكثر من الاعتذار، سارع بأن تحضنه و قل له أنه ليس أبدا ثقيلا عليك بل أنت سعيد في خدمته و العناية به، امح عن ذهن الأب فكرة كونه ثقيلا عليك. سترى ابتسامة رضى و ارتياح في وجهه.
- وفر لأبيك حذاء صحيا مناسبا لقدميه. و فر له كرسيا متحركا إن كان بحاجة له. إن كان يعاني من الضغط الدموي أو السكري، فالغذاء الصحي و أخذ الأدوية المنظمة ضروري حسب حالته.
إن الاهتمام بالأب ليست معاناة بل هي نعمة للأبناء، بها تزداد الحسنات بالمقياس الإلهي و بها تتقوى المناعة الروحية، الأسرية و الاجتماعية، فما أجمل أن ترى بسمة الأب أمامك و حتى إن رحل لن تندم كثيرا. وإذا كان الإحسان إلى الأب في حياته مطلب غالي، فهو أيضا مطلب غالي في حال رحيله. إن كنت تعيش فقدان الأب في حياتك فأنا لم أنساك! خصصت لك الفقرة الأخيرة من هذا المقال لإرشادك إلى أفضل طرق الإحسان إلى والدك الراحل. لكن قبل ذلك أدعوك لتقرأ الفقرة الموالية، إنه موقف من تجربتي الخاصة أبوح لك بها.
الاختيار الصعب
أصعب لحظة مع أبي الحبيب. كان ذلك في صبيحة يوم واحد قبل رحيله. كنا نناقش نحن الإخوة حالة أبينا، اتفق بعضنا على أخذ الأب إلى مصحة. كانت علامات مفاجئة قد ظهرت و رغم أننا في قرارة أنفسنا أحسسنا أنها النهاية و لكن بعض الشك، و إن صح التعبير بعض الأمل بأنه ربما ليست إلا وعكة صحية تستدعي علاجا خاصا. كان الموقف رهيبا حين كنا نناقش الأمر. كل شئ كان جاهزا فقد حجزنا غرفة في مصحة. تلك الأثناء كان ثمة صوت داخلي يقول لنا أنه ليس القرار الصائب، و مع ذلك كنت من الفريق الذي يأمل بشفاء معجز. لكن هل هناك من يشفى من الأجل! هكذا كان يقول أخي بكل معاني كلماته. لم يكن متفقا مع القرار و طلبت منه أن يقنعني فقال لي“…قد يتصلون بك في أية لحظة ليخبروك أنه رحل ولم تتمكني حتى من الإمساك بيده أو معانقته و لم يحس بوجودك، تخيلي أن يفتح عينيه و لا أحد من أحبابه معه”. كان أخي مقتنعا أنه الأجل. كنت مقتنعة أيضا لكني رفضت التقبل. أخيرا احتفظنا بوالدنا معنا، و في اليوم الموالي رحل بسلام إلى دار البقاء. لقد كان موقف أخي صائبا، و كان قرار إبقائه في البيت أفضل قرار في حياتنا، و لم يأت سهلا، لقد كان قرارا مختلطا بمشاعر الحزن، الغضب، الرفض، الأمل و الرجاء. في بعض المواقف لابد للقرار أن يأتي من صوت مجردا ما أمكن من تأثير العواطف الجياشة. حين يأتي الأجل فهو يأتي لمهمة لن يمنعه عنها طبيب و لا أنابيب الأوكسجين. إنه شئ حتمي و فوق قدرة البشر. كان الاختيار صعبا بين إنقاذ أبي من رحيل محتوم و بين أن يرحل ببرودة و وحدة. اخترنا أن يرحل في حضننا.
الحزن أفضل من الندم
سأبدأ هذه الفقرة بآية قرآنية ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ) [سورة الرحمن:26]. يخبر الله تعالى أن كل من في الأرض وكل من في السموات سيموت، و لن يبق أحد سوى وجهه الكريم، الله وحده الحي الذي لا يموت أبداً. وبالتالي فالآباء يذهبون، و في رحيلهم نفقد شيئا منا. رحيل الأب يترك في الروح غصة تظل فينا طيلة حياتنا. لهذا عزيزي القارئ/عزيزتي القارئة اغتنم فرصة وجود الأب في حياتك.
الفراق شئ محزن و مؤلم، و هو إحساس طبيعي جراء فقدان الأب، لكن وجع الندم أقسى من وجع الفراق، الندم حسرة، وجع قاتل، الندم يجعلك تعيش بلا أمل، تعيش بألف شوك في قلبك، فإن كانت هذه حالتك، إن كنت تعيش الندم بعد فراق الأب فالفقرة الموالية لك.
كيف تحسن إلى الأب بعد رحيله ؟
لم يفت الأوان بعد! بعد وفاة الأب يمكنك الإحسان إليه. يمكنك الاستفادة من أسفك و حسرتك بطريقة إيجابية. يمكن لهذا الندم أن يتحول من طاقة هدامة إلى طاقة منيرة. كيف ذلك؟
مع موت أحد والديك يختفي جزء حميم من داخلك. يصعب على أغلبنا النجاة من ذلك. و كما نحتفظ بذكريات جميلة، أحيانا أيضًا يتكون الندم. إنه جرح يحتاج للشفاء. التعبير عن الندم بسبب التقصير تجاه الأب، إساءة أو غفلة، نسيان و إهمال، هو شعور يدل على قلب صاف. رغم كل أخطائك تجاه الأب فأنت تحبه من صميم قلبك لكنك لسبب ما لم تكن ترى قوة هذه النعمة في حياة الأب و هاهو قد رحل. الواقع أنه لازال لديك ما يمكن القيام به. في وسعك الاستمرار في منح والدك الحب و الاهتمام حتى بعد وفاته. إنها رحمة إلهية بنا، سواء كنا مقصرين أم لا، فالله تعالى يعلم حجم الوجع فينا، لهذا أرشدنا لأعمال يستفيد منها الإبن/ الإبنة و الأب معا.
من رحمة الله أن منحنا فرصة بيَّنها في كتابه الحكيم، كما بيَّنها الحديث النبوي. باب التصحيح مفتوح لك فلا تترك الندم يفترسك! إلزم وصايا الرسول صلى الله عليه و سلم:
- الدعاء للأب بالرحمة و المغفرة: أكثر من الدعاء لأبيك في كل صلاة، في كل وقت و كلما تذكرته.
- الصدقة عن الأب بقدر ما تستطيع: طعاما، لباسا، دواء، كلمة طيبة، مساعدة شخص في ضيق، إماطة الأذى عن الطريق، إطعام و سقاية الحيوانات، كل أعمال الخير هي صدقات ترسل ثوابها للأب.
- صدقة جارية: يسمى أيضا “الوقف”. كأن تساهم في حفر بئر لقرية تعاني من قلة الماء. أو تساهم في وقف نسخ من المصحف في مسجد أو كتب علم في مدرسة. أو تساهم في بناء و تجهيز مدرسة، مستشفى، طريق، بيت لأرملة أو يتيم، أو أي عمل يتصف بعدم الإنقطاع مع طول الزمن.
- صلة أصدقاء الأب: الزيارة و الإحسان للأصدقاء الذين كان يحبهم والدك.
- صلة الرحم: صلة أرحام الأب. إخوته و أخواته و أقاربه.
- تنفيذ وصية الأب: قد تكون مكتوبة و قد تكون شفوية. قد يوصي الأب بالاهتمام بشئ أو شخص ما. من الوفاء له تنفيذ وصيته.
- قضاء دين الأب: ربما تعلم أن أباك له دين لدى صديق أو شريك في العمل. أجمل تعبير عن حب الأب أن تقضي دينه ولو متدرجا حسب القدرة. ربما كان يتمنى والدك أن يحج، يمكنك الحج عنه. يمكنك أن تقضي أياما تعلم أن والدك بسبب المرض مثلا لم يصمها.
خلاصة: تذكر أن الآباء لا يبقون للأبد، و في أية لحظة سيرحلون، لهذا استمتع بكل لحظة معهم. لا تتركهم في عزلة عنك، الأب مهما بلغ من الشيخوخة فهو يتمتع بكرامة. أبسط شيئ يفرحه و لو كانت تحية. أتمنى أن يكون المقال قد شجعك في طريق الخير تجاه الأب. أخيرا أسألك دعاء بالرحمة و المغفرة لأبي الحبيب، و لكل من فقد أبا أو أما أو عزيزا أن يتغمده الله برحمته و مغفرته، إنه سميع الدعاء.
هل لديك تجربة مع والدك أو والدتك تريد أن تشاركها مع القراء. أرسلها للنشر في الموقع على بريدنا الإلكتروني.